إمبراطور الحارة الشمالية ( قصة قصيرة)
الأستاذ الفاضل الدكتور / أدهم المليجى
بعد التحية،
أؤكد لك يا دكتور أننى لست مجنونا أو (ملحوسا) كما يطلقون علىّ!
كل مافى الأمر …إنّى مجنون بالفضيلة والعدل والمثل العليا! ومغرم جدا بمهنتى…. الكتابة.
نعم ياسيدى. أنا مجنون كتابة …أشرب السطور بل وآكلها أيضا! أنام بها وأعيش عليها، وأتنفسّها، وأتحدث بها، وأجد فيها ذاتى، من أجل ذلك يا سيدى أصبحت ملحوسًا فى نظر البعض!
ومن أجل ذلك اصبحت هنا…فى مستشفى المجاذيب!
بسببه
بسبب الامبراطور (العيّل)!
ليس الامبراطور الثانى. بل الأول بالتحديد……. امبراطور الحارة الشمالية!
ودعنى أحكى لك قصّتى من بدايتها!
*******************
300ima
كانت حارتنا الماثلة فى المدينة الهادئة الوديعة، كل شىء فيها هادىء رصين وقور، باختصار جوّ مثالى لكاتب وصحفى مثلى يعيش بقلمه ودمه واعصابه، جوّ أحتاجه هو بمثابة الرحم الذى ولدت منه كل إبداعاتى وكل افكارى بسلاسة وبساطة.
أعلم أنّ حارتنا قبيحة جدا، ومتخلفة جدا، ولكنها جزء من حياتى التى أعشق تفاصيلها!
وعلى الرغم من كونى غير موَقَّر من سكان الحارة، لأنهم لا يحترمون سوى القشرة اللامعة حتى لو كان يختفى ورائها العفن ذاته، وقلمى – يا سيدى – لا يلد ذهبا أو فضة، ولذلك فملابسى الرثّة التى لا تتبع (نهر الموضة) فى تغيّر أمواجه، وشعرى الذى لا يعرف النظام، وشرودى الدائم، كل ذلك رسّخ نظرتهم المتدنية لشخصى!
وهذه ليست شكوى بطبيعة الحال…. ولكنها مجرد مدخل أو (فضفضة) أحتاجها.
لقد توتّرت علاقتهم بى – يا سيدى – ما بين النعومة والصخريّة، والشفقة والاحتقار!
ولكن الغالبية كانت تؤكد دوما أننى شخص قد ضل الطريق الى مستشفاك المجنونة!
لم اكترث لهذا، واسمتمرت علاقتى بهم صامتة وان كانت تضجّ بالفهم والمودة والتجاهل ايضا فى معظم الأحيان!
باختصار
كان كل شىء رائع فى حارتنا
حتى جاء الشياطين إلى حارتنا!
لا تسألنى كيف تسلّلوا إلينا، ولماذا سكتنا طويلا قبل أن ننفجر فيهم ومنهم!
فى البداية جاء منهم حوالى عشرة اطفال، عيونهم لامعة واسعة مندهشة، وملابسهم بالية، وحركتهم لا تنتهى، ووجوههم دائمة التوتر والمكر! .
بدا مظهرهم الفوضوى دالًا على أنهم محترفى لعب شوارع وحوارى، وبنظرة ثاقبة منهم تأكدوا ان حارتنا هى المكان المثالى للعبة (الحرب)! ، خاصةً مع صمت أهل الحارة المطبق، مقابل يقظة ومقاومة الحارات الأخرى التى ضاقت بهم وبلعبتهم المزعجة.
بعدها يا سيدى تزايد عدد الصبية بشدة وجاءوا كخليّة نحل طنّانة، وانتشروا فى طرق حارتنا الضيقة الطويلة!
وفى وضح النهار!
فى البداية كانت لعبتهم هى الكلام والتمثيل، فكلهم يا سيدى يتكلمون فى آن واحد، دون أن يسمع أحدهم الآخر، ورغم الضجة الصبيانية، فإن أحدا لم يثر فى حارتنا، وكأن آذانهم اغلقت، وعيونهم قد عميت!
ثم تكّرر حضور الصبية، وشيئا فشيئًا مع تزايد أعدادهم …تزايدت الضجة، وتزايد الخلاف بينهم، وكان طبيعيا أن يكون فيهم سيد ومسود، حتى لا يضيع الوقت دون أن يمارسوا لعبة الحرب!
وظهر منهم صبيان هم الأضخم جسدًا والأعلى صوتًا بالضرورة، وتزعّم كل منهم فريقًا، ثم بدأت اللعبة!
فى البداية تبادل كل (زعيم كل طرف) السباب والاتهامات مع الزعيم الآخر …وأُعلنت الحرب!
اشتعل الدم فى العروق، وانفتحت النار!
أبرز كل طرف سلاحه، وكانت أسلحتهم فى البداية صغيرة …نعم يا سيدى الدكتور. صغيرة.
طوب…زلط…. رمال …بمب …جرادل مملوءة ترابًا…. هذه هى أسلحتهم، وانقلب وضع الحارة رأسًا على عقب مع هذه اللعبة!
الطوب طار فى السماء. أمطار من الطوب مختلفة الأحجام يا سيدى…وبعضهم يفرقع البالونات كأنها قنابل! والبعض تخصص فى قذف ألواح الخشب المتكسّر، والبعض فى نثر الرمال فى الجوّ، مما نشر ضبابًا أصفرًا اغشى الابصار، وفجّر السعال فى الحلوق.
ثم البمب! ……أعداد رهيبة من البمب فرقعت فى آذاننا، ولم تبدأ الرمال تهدأ ثائرتها ودوّاماتها، حتى فوجئنا بالبعض منهم وقد صعد أعلى أسطح المنازل فى حارتنا المتلاصقة البيوت وقد أخذوا يلقون بجرادل الاتربة من حالق، بعد تفريغها فوق روؤس الجميع فى الحارة! ، لتزداد الغشاوة الترابية فوق الرمال المتناثرة فى الجوّ، ولتزداد الضجة حدة، مع القنابل. أقصد الجرادل التى تنهمرعلى رؤوسنا!
فى الحقيقة لم تكن مأساة فى البداية، فقد كنت أتابع هذه الاحداث بنوع من الفرح الساذج والنشوة الغامرة!
تماما يا سيّدى كما أصفق لافلام العنف، لأنها تنزع من جوفى نزعة العنف، أو هكذا أعتقد!
يالها من لحظات مثيرة، الغبار والرمال، الزلط المنهمر، وجرادل التراب، وصيحات الصبية الأشبه بصيحات الهنود الحمر، يالها من متعة خارقة!
إلى أن دمّر متعتى (سالم) قهوجى حارتنا!
إذ وقفَ على ناصية قهوته، وصرخ فى الصبية المتحاربين:
- يا ولاد ال……. …غوروا من هنا …شوفولكو اى داهية تانية تلعبوا فيها!
كان (سالم) هو الوحيد الذى تكلّم، فقد آثر الجميع الانسحاب، المارة غيّروا طريقهم، سكان الحارة أغلقوا النوافذ، أصحاب الأكشاك فى حارتنا اكتفوا بمصمصة الشفاه، اما أنا فاكتفيت بمتابعة ما يحدث من خلال نافذتى المواربة بلذة ما بعدها لذة! ، لم يشاركنى فيها صديق ولا زوجة، فأنا أعيش بمفردى كما تعلم يا دكتور …….
المهم
استمر صراخ (سالم) القهوجى، ثم بدأت شتائمه تدوّى لتشمل الصبية وآبائهم وجدود الجدود، ثم شملنا بسبابه أيضا نحن سكان حارته!
كان قوامه المديد كفيل ببث القلق وليس الرعب، نعم يا سيّدى. فلم يكن لهؤلاء أن يرعبهم أحد فى ظل جماعيّتهم، وتزايد أعدادهم، ولذلك فقد استمروا على عادتهم اليومية فى لعبة الحرب، حتى اشتعل الموقف يوما
فقد وصل غضب (سالم) الى السحاب! ، فجرى نحو قهوته وأخرج من داخلها خرطوما طويلا للمياه، ثم أغرق الجميع فى طوفان هائل من الماء المندفع كالرصاص!
وفرّ الصبية كالفئران، فى مشهد عبثى جعلنى أغرق فى نوبة ضحك متواصل!
والغريب
ان هذا الموقف قد تكرر بحذافيره، حتى اصبحت اللعبة كلها تقام ليلا، والناس تغطّ فى نومها العميق!
ويما بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، اصبحت حربهم كابوسا مألوفا، صباحا، وفى الظهيرة، وفى المساء، فوق أسطح المنازل، وفوق سلالم البيوت، إلى إن فقدت متعتى الاولى تماما، كرهت اللعبة بكل تفاصيلها المملة، صار البمب يوخزنى، والغبار يسلخنى، والزلط نسف زجاج نافذتى!
ثم ازدادوا توحّشا يا سيدى بعد أن سافر (سالم) لأسباب مجهولة، وعلمت أنهم قد اقتسموا الحارة – شمالية وجنوبية! - كل فريق أصبح له منطقة نفوذ أو سيطرة …ولكل منطقة امبراطور! بل ولكل منطقة سلاح وحدود محظور تخطّيها إلّا بعد تسليم الاسلحة!
وابتهل الكثيرون علنا بالدعاء لله أن يعود (سالم) …لكنه لم يعد!
وأدرك الصبية ذلك، فزاد جنونهم، وزادت حربهم استعارًا، ورأيت بنفسى بعدها إمبراطور الحارة الشمالية وقد أحضر جردلًا من القار الأسود ولطّخ به الواجهة الحديدية لمقهى (سالم)، الذى غابَ…وأمعنَ فى الغياب.
وهو نفسه، رأيته وهو يربط أحد الصبية بعامود نور وينهال عليه ضربًا بحبل غليظ – أصبح كرباجًا فيما بعد – وفى النهاية يُغرق الضحية بصفيحة تراب كاملة فوق رأسه!
ولم أُطِقْ صبرًا وأنا أرى هذا الامبراطور (العيّل) وهو يرشق المارة والسيارات بالحجارة، ويسارع بعدها للاختباء وراء جدار، وأخيرًا وهو يربط جروًا صغيرًا ويعذّبه بينما عصابته تضحك وتضحك، وفى الليل …كان قد أتى على كل اشجار المنطقة المحيطة بحارتنا واقتلعها من الجذور!
واشتعل الغضب فى نفوسنا يا سيّدى الدكتور، ثم فجأة غاب الإمبراطور، وغابت عصابته، وانتهت اللعبة، واستعادت الحارة اتزانها وهدوئها، وعاودتنى حماستى للكتابة من جديد، واستمر صمت الإمبراطور واختفاؤه.
أسبوع أو ثلاثة؟ …. لا أذكر، ولكنه عاد كالعاصفة الهوجاء، وتعملقت الاشياء كلها فجأة!
لم تكن رمالًا بل كتلًا عملاقة من الطين الاسود اللزج، ولم يكن زلطًا. بل صخورًا ناتئة، ولم يكن خشبًا متكسّرًا. بل حديدًا، واخيرا…. نيران!
نعم يا سيدى الدكتور نار حقيقة، أعواد خشبية مشتعلة تتطاير مع الطين اللزج والاعواد الحديدية فى سماء الحارة!
سادت الضجة المكان، فحاولت أن أتشاغل عن اللعبة المملة، فتركت نافذتى مفتوحة، وحاولت التشاغل برؤية (فيلم) فى التليفزيون!
وفجأة
انشرخت شاشة التليفزيون!
أصابتها صخور الملاعين فدشدشتها فى الحال، فجريْت كالملسوع نحو النافذة، أحاول أن أصرخ فلا يخرج صوتى، وفرقعت عظام النافذة الزجاجية فى أذنى، انكسرت هى الاخرى! ، وسيطرت الرغبة المجنونة أن أذبح هؤلاء المجانين!
وقبل أن أهمّ بعمل شىء ما، اشتعلت النيران من أعوادهم المشتعلة التى تطايرت داخل المكان عبر النافذة، اشتعل بيتى، النيران كشيطان رجيم أمسكت فى كل شىء، الستائر، الاغطية، الأثاث…كل شىء …كل شىء…أخذت تستفحل وتتطاول وتتراقص امامى بجنون!
ثم أخذت بكل قوة فى كيانى اصرخ من خلال نافذتى:
- ياناس. يا بشر! …. غرّقوهم…. اعملوا زى سالم. رشّوهم بالمية ولاد ال………!
ولا أدرى سيدى لماذا صحا الجميع فجأة ربما لأنى نكأت غضبهم المكبوت!
كانت النوافذ الزجاجية المكسورة، والنفوس التى أطار صوابها واتزانها الامبراطور العيّل وعصابته الملعونة. بهوسته وهوسه.
وانهمرت الشلالات! الكل يلقى من نافذته بحرًا من المياه. النساء والرجال، الاطفال والشيوخ، كانت لحظة (عقل) جماعية …أو لحظة (جنون) جماعية!
شعرت أنى أغتسل بالشلالات. أننا نغتسل جميعًا، وكنت الاكثر حماسًا، وحدى…صببت ما يفوق العشرين جردلا من الماء فوق رؤوس الشياطين!
لست مجنونا يا دكتور. ولا ملحوسا! ، وحينما جئت أنت بعد إبلاغك بالمأساة تخلّص الجميع بعد أن رأوك ومعك رفاقك ومعكم عربة المجانين – من جنونهم، أو عقلهم!
توقفوا على الفور عن إلقاء المياه، بل وأغلقوا نوافذهم، أما أنا …فاخترت أن أكون ملحوسا للنهاية!
وأذكر يا دكتور أدهم أنك ذهلت لما رأيتنى أفعل ما أفعل، ورأيتك تصدر أوامرك باحضارى. (كمجنون رسمى)! وسارع معاونوك ليقبضوا على ّ
ولكنك لم تقبض على الصبية!
رغم أنهم يحاربون حتى الآن!
ولا على امبراطور الحارة الشمالية!
دكتور ادهم: أعتذر لك لهروبى هذا من مستشفاك المجنونة، لكننى لن أتركه ابدًا!
فهذا الإمبراطور العيّل سوف يحمل غدًا قنبلة، وسوف يقتلنا جميعا بمنتهى اللذة والشراهة!
لن أعود لمستشفاك ابدًا، ولن اْفلت هذا الامبراطور العيّل…حتى لو كان ذبحه آخر ما أفعله فى حياتى!
الكاتب والصحفى / رجائى
***********
طوى الدكتور أدهم مليجى الرسالة بسرعة، وبرقت عيناه بفزع، وهو يصرخ فى مساعديه
- الحقوا المجنون (رجائى) ……. حيقتل الامبراطور!
............
تمت
.........
تعليقات
إرسال تعليق